Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

محمد معتصم

Derniers commentaires
Newsletter
Catégories
محمد معتصم
  • تتضمن المدونة عددا من المقالات والدراسات، والأخبار الثقافية والآراء حول المقروء والمنشور والمتداول في الساحة الثقافية. مع بعض الصور
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
15 novembre 2022

حوار غير منشور حول إيجابيات كورونا، كوفيد- 19

Publicité
29 août 2022

في تذكُّر نجيب محفوظ

29 août 2022

الحيلة كخدعة: من حيل المتنبئين

27 juin 2022

مقالة في ديوان رجاء الطالبي الحديث "أوراق أوندروميدا" الصادر عن دار فضاءات 2022م

محمد معتصم

 

أوراق أندروميدا

 

الكتابة ملاذ تحتمي به الذات في مواجهة مخاطر الوعي القبْـ(بَـ)ـلي، مثلما واجهتْ "أندروميدا" (Andromède) خطر الموت ضحيةَ لوعي القبيلة ومعتقداتها المتوارثة من جهة، ومن أخرى ضحية الخوف ومواجهة القبيلة ذاتها لمخاطر المجهول (غضب الوحش البحري)، تُقَيَّدُ أندروميدا بالأغلال إلى الصخرة العتيدة في انتظار قدوم الوحش "البحري" إله البحار "بوسيدون" في الفكر الأسطوري اليوناني، لولا البطل "بيرسي" (Persée) الذي قضى على الوحش "ميدوزا" التي تصيب من نظر في عينيها مباشرة بالتحجر، واستخدمها ودمَها وسيلة للقضاء على الوحش البحري ومن ثمة قامَ بِتخليص الفتاة الجميلة "أندروميدا" من مصيرها المحتوم.

هذه الخلفية الأسطورية، ليست مجرد خرافة كما يتم تداولها اليوم، بل هي وعي وتفكير ساد في فترة لم يكن فيها الإنسان قد بلغ بفكره وعقله الدرجة التي ترتفع به على مستوى الطبيعة وخوارقها، فقد كان الإنسان في بداياته كما ترى نظريات الفلسفية والنصوص التاريخية الخاصة بالبحث في طفولة البشرية، وكذلك كان في مصر الفرعونية، فكلما واجه المصريون القدماء مصيبة فيضان نهر النيل، يقذفون بأجمل عروس إلى إله النبيل الخفي الملحاح المتعطش للدماء وأجسام الصبايا الفتية الطرية. إن الأساطير كانت طريقة تفكير بدائية، ولكنها معقدة كونها حكايات منظمة ومحبوكة ومنسجمة ومؤثرة، تسعى إلى احتواء الظواهر الطبيعية والاجتماعية والسياسية وكذلك الإشكاليات المركبة التي لم يكن العقل البشري قادرا على فهم وتفسير وشرح أسباب حدوثها. وتلك الأساطير اتخذت اليوم صورا مختلفة نظرا للتركيب الشديد الذي وصل إليه العقل البشري اليوم.

لقد تم تعويض الأسطورة باللغة من جهة، وبالكتابة من جهة أخرى، فكانت الكتابة تجربة انتقال من الواقع في صلابته وفي اتساعه وتعدديته وتناقضاته إلى المتخيل الذي يعمل فعل التخييل فيه إعادة ترتيب العالم، وكذلك خلق قدرة قوية على إعادة بناء العالم من جديد في الكتابة، لكن الكتابة ليست فقط فعل تدوين قائم بذاته، بل تحتاج إلى وسيلة تواصل ليست بريئة تماما، بل خزان المعرفة، وقد أطلق عليها هايدجر "إقامة الكائن"، وأقصد اللغة، وهما معا وجهان لعملة واحدة. تقول الشاعرة:

"كل شيء يمكن تحريفه

أيها الخيال، أنتَ أكثر وفاءً

أنتَ من يؤَمِنُ بعشبة الخلود

كما يمكنه أن يكتبَ قصيدة" (5-6)

كلما أزمت بالعالم أزمة وبالإنسان الفرد في عزلته الداخلية، يبحث عن ضحية بينما تبحث الضحية عن ملاذها "الكتابة" و"الخيال"، عبرهما تحقق الانتصار، بعيدا عن العقاب البدني، الذي تبني القبيلة حوله أساطيرها التبريرية، أساطير تبرر عجز العقل وقلة الحيلة لديها، وفي الآن ذاته، تبرر تعطشها "القبيلة" إلى الدم، إلى التخلص من العناصر المقلقة لوجودها واستمرارها في التسلط، ليست أندروميدا الضحية الأولى ولا الأخيرة على مدى التاريخ والصراع من أجل السلطة غير المتكافئ، بروميتيوس (Prométhée) ذاته، وقع ضحية غضب زيوس (Zeus)، الذي رأى أن سرقة المعرفة من حوزة الآلهة، أي سلطة متحكمة، في كل مجال، لأن إخفاء الأوراق والأسرار وتحريف الخطاب من الأدوات الأساسية للتحكم في الوعي وتوجيه العقول واستباق تمردها وتميزها ومنافستها وإقلاقها راحة "القبيلة" فيتولد بطريقة لا واعية في نفسية المتسلط "مقاومة" ضدية، بل فطرية تراكمت في نفسه منذ مراحل عميقة في التاريخ.

بالإضافة إلى "الكتابة" و"الخيال" نجد الذات الشاعرة تحتمي بـ"اللغة"، الوجه الآخر للكتابة والقناة الأساسية التي تختزل الوجود العام وكينونة الكائن في مواجهة المجتمع من خلال الثوابت الفكرية المتحكمة فيه لا واعيا الجماعات، القائمة على الخوف من الفكر النقيض ومن الأفكار الحرة أو المتحررة من التبعية والخارجة عن التنميط والتماثل المستنسخ، وهذا المعتقد تصور راسخ ونمطي، يتحكم في منطق "القبيلة" المطمئنة جماعتها للطبقية والترتيب المتوارث، لأنه يكرس نظاما وبالتالي سلوكا رتيبا. والأهم من كل ذلك أن أندروميدا لم تكتشف خيانة والديها (Céphée & Cassiopée) والقبيلة لها إلا وهي مغلولة على الصخرة، حيث تمزقت غشاوة عينيها على الوقت (Cronos)، أي على ماضيها المطمئن، تقول الشاعرة:

" الفسحات البيضاء

تنبثقُ من تشوش الظلمات

الفراغ الأبيض

ما تبحث عنه

حين تتمزق بشرة الوقت" (9)،

وفي المعنى ذاته تأتي العبارة الآتية:

" أحداقٌ مفتوحةٌ

على بئر الفراغ" (14)

لم تنتبه أندروميدا إلى الخوف العدائي للذات في جماعتها إلا وهي مصلوبةٌ على الصخرة العتيدة، ضحية، وفداءً لسلامة الجماعة، إنها لحظة انتهازية، ولحظة خيانة عظمى، تحيك الجماعة خيوطها من خلالها مبررات واهية، تهدئة سورة غضب الوحش البحري، التي تتضمن الرعب القائم تاريخيا في نفس الجماعة، وذنب أندروميدا أنها جميلة وصبية وفتية، تلك الصفات المميزة تتحول إلى عنصر تشويش عند الجماعة، عنصر يبعث على القلق، لأنه يخلخل توازن الجماعة ووعها، وهذه الظاهرة العدائية والعنيفة تتجلى في كثير من الحكايات العالمية الشائعة، مثل بياض الثلج، على سبيل المثال، لكن الأهم في ديوان رجاء الطالبي أن المأساة الواقعية، وتراجيديا الوجود العام، تقاوم بالأمل، ببطولة وشجاعة "بيرسي" وبسلاح الوحوش نفسه دم ونظرة "ميدوزا" (Méduse)، والصراع يجري في ساحة اللغة وميدانها الكتابة والخيال. في هذه الساحة يتم تفكيك مركبات الواقع وتشريح اللاوعي الثاوي في النفس والمتجلي في السلوك الجمعي والعنف الفردي.

تستعمل الشاعر لهذا الاشتغال الفكري واللغوي والإبداعي معجما خاصا بها، يميزها ويرسم حدود متخيلها الشعري الذي يذهب باتجاه الحدود القصوى للكائن وللغة، من قبيل فيافي الصمت، وأقاصي الذات، وهول الفراغ، وامتداد الآفاق السحيقة،  إنه معجم يجسم طبيعة العلاقة بين الشاعر والواقع اليومي، وهي صرخة وسمت إبداع شعراء عالميين وجدوا أنفسهم في المراحل الفاصلة، مراحل الصراع المرير لولادة مرحلة تاريخية واجتماعية وفكرية وسياسية من متلاشيات مرحلة في طور الزوال والأفول، مرحلة تقاوم من أجل البقاء والاستمرار أطول ما يمكنها ذلك. تعنون الشاعر قصيدتها كالآتي "أسقط نحو ما يأتي"، جملة خارج الجاذبية، جملة اختلافية، تخلق المستحيل، لا تسقط نحو الهاوية في الأسفل، بل تسقط نحو المستقبل، نحو الممكن، الذي ستصنعه الذات لنفسها، المستقبل الذي لا ينبغي الوقوف في اللا مكان، وانتظار قدومه، بل المستقبل الذي يبنى ويتحقق بالفعل والقوة، فعل الكتابة وقوة الخيال، ومداد الشك والحركة الدائمة نحو ما تطمح الذات إلى تحقيقه. ثم هناك صوت الـ"أنا" الذي يقف وحيدا مع ذاته في مواجهة الممكن من المستحيل. حيث يلتقي الشعر بالفلسفة، ويشقان الطريق كرفيقين يحفزهما اللا وصول أكثر من طمأنينة التغيير أو الاستكانة للسهل البسيط المتماثل:

"كحجارةٍ ثقيلةٍ

لم توجدْ أسقطُ

نحو ما يأتي إليها ثقيلا

يتموَّجُ كدوائر صماء

تجتاحها

صفحة الليل المائيةُ

تلمعُ في يدٍ من نار" (13)

تقول الشاعرة:

"ما نظرتْ عينُ الشاعرِ، ولكنَّ قلبهُ حيثُ توجه النظر، يحيي ما تجمد" (22)

إذا كانت عين ميدوزا خلاص أندروميدا ضد سطوة وحش البحر، فإن عين الشاعرة تحيي الموات والخراب وما تحجر من العالم وفي الفكر وفي النفوس المضطهدة، وهي نفوس تستكين لواقع الحال ويرعبها المستقبل والتغيير والمغامرة والمخاطرة. فعين الشاعر ليست سوى استجابة لا إرادية لما يوحي به القلب، مصدر القصيدة والحياة وجوهر الإبداع والفكر والابتكار.

إنه الأمل الذي جاء من المجهول لإنقاذ أندروميدا من براثن الوحش البحري، ذلك الهواء/ الأكسجين الذي تستنشقه الأرض؛

" أشجارٌ قصيرة مستسلمة لهدأة المساء

تغني بخفوت ضد الموت، تقول الهواء،

السماء الهادئَةَ القريبة، تهمسُ أن الهواء

حيٌّ، أن الأرض تستمر في تنشق الهواء" (27)

هذا الهواء الذي تبعثه القصيدة/الكتابة في زحمة اليأس، وتحت السماء الكئيبة الخفيضة، إنها قصائد تجمع بين المتناقضين؛ الموت والحياة، واليأس والأمل، والقبح والجمال، والواقع والخيال. كل ذلك ممكن في ساحة الكتابة، وميدان الخيال بواسطة اللغة الشعرية المجازية، تغني القصيدة بخفوت كما تتضرع أندروميدا في خفوت على صخرة "المذبح"، هل جاء بيرسي من المجهول؟ هل جاء استجابة لتضرع المظلوم المكلوم الكظيم؟

تحفل اللغة الشعرية بكل الاحتمالات الممكنة والخلافية التي لا تخضع لرتابة المنطق وقانون العليَّة والسببية، تحدث الأشياء أيضا لأن الشاعر يؤيد ذلك، تحدث في مكان ما، في ساحة الكتابة وميدان الخيال الخلاق. هنا قوة القصيدة وخصوبة اللغة الشعرية.

20 juin 2022

الترجمة والخيانة والمثاقفة... حلقة أولى

Publicité
18 juin 2022

مداخلتي في ندوة "الترجمة مكونا ثقافيا، ضمن أنشطة موازية للمعرض الدولي للكتاب بالرباط هذه السنة 2022م

16 mai 2022

الحلقة الأولى حول مفهوم التخييل الذاتي

 

 

30 décembre 2021

حوار حول الثقافة والأنثروبولوجيا الثقافية والنقد الثقافي بمجلة الجسرة القطرية .ع.59

 

تحية طيبة لك صديقي العزيز محمّد وأرجو أنّك بخير، كما أرجو أن يسمح وقتك للإجابة على هذه الأسئلة، على أمل أن تصلني إجاباتك نهاية هذا الأسبوع، أي هذا الخميس أو الجمعة صباحًا، مع خالص التقدير والمودة.

 

س1: من المعروف أنّ الدّراسات الثقافية تختلف عن التخصصات الأخرى كالأنثروبولوجيا الثقافية مثلاً، لكنّها تحيط بهذا المجال وتُساهم فيه بشكلٍ لافت. ما رأيك؟

ج 1: نعم، الدراسات الثقافية تيارٌ يختلف عن الأنثروبولوجيا الثقافية، بل هي جزء منه، ضمنه، يعتمد عليها الدارس في إنجاز أبحاثه، بالإضافة إلى اعتماد الدراسات الثقافية على الفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم شتى، كما يمكن التمييز بينهما بما أقترح الآن، فالدراسات الثقافية "علم" يسعى إلى بناء تصور شامل عن الثقافات في تنوع مكوناتها واختلاف بيئاتها، من أجل الوصول إلى مشرك بينها جوهري، يمَكِّن من تجاوز الاختلافات التي تنشأ بتأثير من البيئة والمجتمع والعادات وتعاقب وتداخل الثقافات والمؤثرات الخارجية، بينما الأنثروبولوجيا الثقافية، فهي "مقاربة نقدية" تدرس الثقافات مستقلة بذاتها، ويتضح ذلك عند كلود ليفي ستراوس مثلا، في الأنثروبولوجيا (يترجمها البعض بعلم الإناسة) البنيوية، التي تأثرت بمناهج البحث اللسانية، وما حققته من ترقي علمي واقترابها الشديد من "العلمية" في ميدان العلوم الإنسانية، لكن الأنثروبولوجيا، للأسف، تقع ضحية فهم إيديولوجي ضيق، أي أن الدراسة الأنثروبولوجية تتوجه نحو المجتمعات البدائية أو المجتمعات المختلفة عن الثقافة والحضارة الغربية المتقدمة، وكأن الثقافة لا توجد إلا في هذه المجتمعات التي تأخرت عن الركب بسبب ما تعرضت له من تهميش إبان الحملات الإمبريالية واستنزاف لثرواتها البشرية الطبيعية، كما أن تجنب الدراسة للمجتمعات المتقدمة يتجاهل جانبا مهما من فهم الثقافة السائدة، وهذا ما تسعى الدراسات الثقافية تجنبه لأجل الوصول إلى الحقيقة العلمية لمفهوم "الثقافة".   

 

س2: هل يمكن الحديث عن دراسات ثقافية يتكئ عليها النقد الأدبي/والنقد الثقافي؟

ج 2: الإشكال المتضمن في هذا السؤال يتعلق بمفهوم النقد الأدبي والنقد الثقافي، وباختزال شديد، فالنقد الأدبي له تاريخ عريق وموضوعه النص الأدبي بمحدداته ومكوناته اللغوية والأسلوبية والبلاغية، التي تنقل ذلك المحتوى إلى المتلقين دون الإخلال بالقيمة والقيم الفنية والجمالية، وقد يستعين النقد الأدبي بعلوم مجاورة لفهم المحتوى وتحليله، في مقاربات علمية أو تسعى إلى العلمية؛ "أدبية الأدب". بينما النقد الثقافي، وبالمناسبة فهو طريقة في فهم ودراسة النصوص الأدبية بالاعتماد على الأنساق الثقافية المتضمنة في النص، أي أنه في الحقيقة، دراسة "تأويلية"، وفي الوقت ذاته مقاربة تسعى إلى فهم النص انطلاقا من الأنساق المكونة من بنيات فكرية ومواقف شخصية غير مصرح بها علنا، لكن تفهم من خلال تحليلنا للخطاب الذي صاغها فيه المؤلف، والنقد الثقافي، يفسر وجوده، من خلال موقف دعاته من النقد البنيوي ومن فكرة عَلْمنةِ الأدب وعبره باقي العلوم الإنسانية، أي أنه يأتي للبرهنة على أن الذاتية وحضور المؤلف والبنيات العميقة المضمرة من أهم ما يعطي النص الأدبي قيمته الجمالية وحقيقة وجوده واستمراره، في رسم مسارات تحول الإنسان ونموه المعرفي والثقافي. لذلك لا يمكن اعتبار دراسات مشيل فوكو دراسات في النقد الأدبي ولا دراسات جاك دريدا ولا دراسات إدوارد سعيد، ولكنها دراسات تندرج ضمن النقد الثقافي، سواء باعتمادها البحث الأركيولوجي لبنات الفكر الإنساني والسياسي أو التفكيك الجنيالوجي للألفاظ والكلمات، على اعتبار أن للكلمة تاريخا، هو تاريخ تحول الفكر الإنساني، أو دراسة صراع الثقافات على اعتبار أنها بنيات فكرية لثقافات مختلفة وإيديولوجيات، أي ثقافات ناتجة عن صراع الأهواء البشرية حول التملك والاستحواذ على السلطة.

من الممكن الاستفادة في النقد الأدبي والنقد الثقافي من الدراسات الثقافية، لأن الثقافة الوجه الثاني لمفهوم الحضارة، المتعلق بكل ما أنتجه العقل البشري، من أدب عالم وشعبي، وفكر وفلسفة ومسرح، وباقي الفنون الجميلة، بينما الوجه الآخر يتعلق بما صنعته يد الإنسان، من تشييد وبناء وعمارة،وهي بدورها لا تخلو من جمال وفن، لكنه جمال لا يعتمد على اللغة والتعبير الكتابي والشفهي. وإذا كانت الدراسات الثقافية تبحث عن مشترك الإنسانية الثقافي، أي بحثها في جوهر الثقافات الإنسانية وفي التقاطعات المعرفية، فإن الأدب واحد من الإنتاج الثقافي الإنساني، الذي يحمل بالضرورة بصمات تطور هذا الكائن الحي والحيوي الفاعل، لكن النقد الثقافي يكون في حاجة أكثر إلى الدراسات الثقافية من النقد الأدبي، مثال ذلك، الدراسات النسوية، فالنقد الأدبي يبني صرحه على التحليل اللغوي والبلاغي والأسلوبي، للوقوف أولا وأساسا على الأبعاد الجمالية لهذا النوع من الكتابات، ومحاولة التعرف على المواقف والثقافات التي ينتجها سيحتاج إلى "تأويل" المضامين، وكذلك الاستعمال اللغوي (أي الجانب التداولي) لبناء موقف أو تصور فكري، وهنا سيجد الباحث نفسه ينزلق دون وعي منه من النقد الأدبي نحو النقد الثقافي، مثلا يلجأ إلى تأويل استعمال الكاتبة للاسم العلم المؤنث معنى والمذكر لفظا، أي اسم العلم الخالي من علامات التأنيث اللفظية (التاء المربوطة والألف المقصورة والألف الممدودة)، مثل: مريم، هند، سعاد...، وتلجأ الكاتبة إلى تأنيث المذكر لفظيا كذلك، مثال: حمزة، عنترة، معاوية، علاء، زكرياء...، وهذه الملاحظة النحوية والإملائية تدعم موقفا من الكتابة النسوية، وهي في الآن ذاته تأويل يكشف عن بنية تتضمن الصراع بين المذكر والمؤنث، الذي يحيل في الخارج؛ المجتمع والثقافة على صراع بين سلطة الرجل ووضعية المرأة. إذن، يقوم النقد الأدبي على التحليل، وحاجته إلى الدراسات الثقافية قليلة إن لم نقل نادرة، بينما النقد الثقافي القائم على التأويل يحتاج بشدة إلى الدراسات الثقافية ونتائجها.           

س3:ما هي القواسم المُشتركة بين النقد الثقافي والدّراسات الثقافية؟ وهل النقد الّذي تُمارسه الدراسات الثقافية هو نوعٌ من النقد الثقافي؟

ج 3: يمكنني إعادة التأكيد هنا على ما ذكرته من علاقة بين الدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا الثقافية، وبذلك نكون الدراسات الثقافية علما يسعى نحو التعرف على البنيات الأساسية والمشتركة لكل أنواع الثقافات العالمة وغير العالمة، مع دراسة العلاقات بينها والتقاطعات أيضا، والنقد الثقافي يتجه نحو الفكرة الثقافية، أي دراسة المواقف الفكرية وحصر الأنساق الثقافية، من خلال الوقوف على المسار التاريخي لتحول الوعي والمعرفة الإنسانية، من أجل معرفة حقيقة الإنسان وآليات تفكيره في ذاته وفي علاقاته المركبة ببني جلدته من الثقافات والأوعاء المختلفة، ولكن عبر دراسة البنيات العميقة أو اللاواعية المضمرة وغير المعلنة والمصرح بها، وهذا الإضمار، لا يتم إلا عبر رغبة الإقناع بنصف الحقيقة، كما أشرنا إلى ذلك، في حصر الأنثروبولوجيا مفهوم الثقافة في الشعوب البدائية، وكأن الشعوب المتقدمة، في الدول المصنِّعة والتكنولوجية، لا تمتلك ثقافة تخص الفئات البسيطة والمتحكم فيها داخل تلك الجتمعات، فينتشر الوعي "المغلوط" بأن المجتمعات المتقدمة، خالية من العيوب والنقائص ولا تنتشر بين أفرادها وفئاتها الثقافات البدائية من شعوذة وخرافة وتفكك وانحلال.

إن النقد الثقافي جزء من الدراسات الثقافية، لكنهما يحتاجان لبعضهما، بالرغم من أن الدراسة الثقافية تنحو باتجاه "العلمنة"، ويبقى النقد الثقافي دراسة تأويلية للأنساق والمواقف الفكرية والسياسية غير المعلنة، أي دراسة تأويلية للاوعي النص، دون إغفال حداثة "النقد الثقافي" الذي ما يزال في طور البحث عن ذاته وإثبات هويته وخصوصيته المنهجية والعلمية، ودون إغفال أسباب نشوئه، والمتمثلة في الثورة على علمنة العلوم الإنسانية في سباق محموم للتشبه باللسانيات السوسورية والأنثروبولوجيا الستراوسية، وإلى حد ما سيميائيات غريماس وكوتيس، وأعني بالتحديد الدراسات البنيوية، فالنقد الثقافي لا ينصب على دراسة الفكر والنصوص الفلسفية أو أنساق الفلسفات الكبرى، من أجل تفكيكها كما فعل نيتشه مع الميتافيزيقا، أو فوكو مع التاريخ والمعرفة، أو دريدا مع اللغة لفظا وبناء، أو ما فعل لاكان مع الأحلام أو اللاوعي اللغوي. وهذه كلها في رأيي روافد كبرى وقوية لبناء صرح "النقد الثقافي".     

 

س4: هل يمكن القول أنّ الدّراسات الثقافية تُمارس حقاً التحليل النقدي الكافي للمشهد الثقافي كما يجب؟

ج.4: يبدو لي أن الخلاف الذب ينبغي توضيحه هنا كذلك ومن خلال السؤال، يقوم على التمييز الدقيق بين ما يراد بلفظ "دراسة" ولفظ "نقد"، فالدراسة لا علاقة لها بالتأثير في الشيء أو الآخر كما هي الحال في النقد، بل تكتفي بتحليل الظاهرة أو الظواهر المتشابهة والمتقاربة، لأجل الوقوف على الحقيقة الجوهرية التي يمكن وصفها بالعلمية، وهذا يقودنا نحو التعبير التالي: الدراسات الثقافية تمارس التحليل، انطلاقا من ملاحظة الظاهرة ووضع الفرضيات الممكنة، ثم الوصول إلى نتائج ممكنة أيضا، توافق أو تناقض الفرضيات، لأنها تطمح إلى تأسيس "علم الثقافة"، كما نتحدث عن السياسة وعلم السياسة، وعن التاريخ وعلم التاريخ، والأدب وعلم الأدب، والحديث عن نقد الثقافة، تنبري له علوم أخرى يمكن أن يكون النقد الثقافي واحدا منها، ودراسة السياسات الثقافية، وتعدد طرائقها بتعدد نظرة الدارس لمفهوم الثقافة والحاجات المطلوبة والمتوخاه من تلك الدراسة.

إن النقد الثقافي يستعين بالثقافة في دراساته، وبينما الدراسات الثقافية تحليل مفهوم الثقافة كنسق فكري وتقف عند مكوناتها وعلاقاتها، والمشهد الثقافي مجرد حالة صغرى معزولة ومتحولة تدرسها الدراسات الثقافية كمتغير في سياق عام. ولا يمكن دراسة المشهد الثقافي إلا في سياق خاص يراعي التحولات والمؤثرات والفاعلين الثقافيين (مفكرين وسياسيين ومتدخلين خواص)، وفي حال تحكم الخواص (التجار وأرباب المال) في المشهد الثقافي تكون الدراسات الثقافية في الغالب الأعم، قد جنحت عن خطها العلمي لتتحول إلى مبرر أو إلى اختزال مفهوم الثقافة في كل ما ينتج المال، وهو الحاصل اليوم، حيث تسيدت فنون شعبية على فنون ثقافية، وبات المشهد الثقافي مختزلا في ما عرف ب"الثقافة الشعبوية" التي تجلب الفرجة والمال، على حساب الثقافة الملتزمة التي تربط الفن والجمال بالمعرفة والتوجيه والتربية.    

س5: الرهان داخل الدّراسات الثقافية، يفتح أيضًا الكثير من الأسئلة الهامة والمُربكة في هذا الحقل. كيف تقرأ إشكالات الإرث النظري للدّراسات الثقافية؟

ج.5: من المؤكد أن الدراسات الثقافية، حديثة بدورها على الساحة العالمية، ويؤرخ لها بستينيات القرن الماضي في الثقافة الأنجلوساكسونية، وهذا ينتج عنه حتما، الخلاصة الآتية، من السابق لأوانه الحديث عندنا عن إرث نظري وحتى تطبيقي منجز للدراسات الثقافية، إذا كانت هناك دراسات فهي في الغالب مجرد ترجمات أو مراجعات مختزلة لترجمات غربية، والدليل أن في ثقفتنا، ما يزال مفهوم "المثقف" ملتبسا، وكذلك مفهوم "الثقافة"، وفي حال الحديث عن "السياسات الثقافية" في مراكز القرار، نصطدم بالتعميم ومحاولات تعويم المحتوى، بين ما هو مادي وغير مادي، ومحاولة خلق منطقة بيضاء بين السياسات المحلية والتوصيات الدولية، فتبقى الدراسات الثقافية الرسمية خاصة، حبيسة الرفوف والملفات داخل المكاتب والإدارات، بينما في الواقع يتم تغييب الثقافة، وذلك لتجنب الحديث عن التعدد الثقافي خوفا من طرق قضية التعدد العرقي وإبراز فكرة الأقليات الثقافية واللغوية والعرقية. لذلك يمكن في الغرب الحديث عن دراسات ثقافية وعن إرث نظري ثقافي، بينما عندنا ما نزال في حاجة إلى الاتفاق حول مفهوم الثقافة، وإثبات وإقناع (الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين) بأهمية الثقافة، وبأنها الوجه الآخر الذي لا محيد عنه في إبراز الموقع الحضاري لكل بلد.     

 

س6: ما هو واقع وحال الدّراسات الثقافية في العالم العربي، وهل أصبحنا على -مستوى الجامعات العربية مثلاً- نعي أهمية هذا الحقل؟

ج.6: لو نظرنا كما سلف القول إلى انخراط الجامعة العربية ووزارات الثقافة في البلدان العربية في المنتديات الدولية والتزاماتها "ثقافيا"، وانخراط الجامعة العربية في المشاريع الكبرى والمتطورة، ومنها السياسات الثقافية الحالية، التي فرضتها الثورة التكنولوجية الرابعة، وما حدث بداية وإبان الجائحة، كوفيد-19، لبدا لنا العالم العربي متقدما ثقافيا، والوثائق والتوصيات واللقاءات والندوات موجودة على شبكة الانترنيت لم يرغب في البحث في الميدان، بل يتحدثون عن المنصات الثقافية والبوابات الرقمية والتبادل الثقافي، وتعاون وزارات الثقافة العربية على التعريف بالموروث الثقافي العربي قديمه وحديثة، والتبادل الثقافي... ولكن على مستوى الواقع والممارسة ما تزال العقليات المسيرة تقليدية، في كثير من البلدان العربية، ما تزال تدار الثقافة بعقليات غير مستوعبة للتحولات الكبرى في الثقافة العالمية، وقد كشفت الجائحة الحالية، كثيرا من العيوب والنقائص الناجمة عن عدم مكواكبة التحولات الدولية وخاصة التحولات التكنولوجية في ميدان الثقافة والنشر وسياساتهما.   

س7: في ذات السياق ما هو مستوى أو سقف التلقي العربي لحقل الدّراسات الثقافية؟

ج.7: مستوى التلقي تدل عليه النتائج، ما ينتجه المثقف العربي من جهة، وما ينتجه المسؤول الثقافي، وهنا الواقع لا يكذب، فالأزمة واضحة في اتحادات ورابطات الكتاب وجمعيات المجتمع المدني عامة والثقافية والتربوية خاصة، وبيوتات الشعر، ثم المكتبات والأندية والمسارح ودور الشباب... كل ذلك في تراجع، وبعضها يلفظ أنفاسه، والبعض الآخر لا وجود فعليا له، لأن المتلقي القارئ في تناقص، والمتلقي المشاهد في تزايد عبر المنصات والبوابات الإلكترونية الشعبية والاجتماعية، مثل فيسبوك ويوتوب، ومشاهد ومقاطع تيك توك، وغيرها كثيرة، لكنه تلق عشوائي غير منهجية ولا موجَّه، وبالتالي لا يمكن اعتماده لبناء قاعدة ثقافية وطنية أو حتى قومية، لتأسيس ثقافة يتلقاها الجميع ويساهم في بلورة مضمونها الجميع. تحتاج الدراسات الثقافية الخروج من الرفوف الباردة للإدارت إلى الميدان داخل المجتمع لاختبارها وتطويرها وخلق قناة للتلقي السليم لها.

س8: ما هي أهم العراقيل التي تُواجه حقل الدّراسات الثقافية؟

ج.8: البيروقراطية، والأحكام المسبقة على الثقافة والمثقف، ثم التفاوت بين فئات المجتمع في الوعي والفكر ومستوى العيش. أما الدراسات الثقافية التي تبقى محصورة داخل أسوار الجامعات والإدارات والجمعيات، فلا أثر لها في الحياة الثقافية العامة.

س9: هل وظيفة النقد الثقافي هي، اِستنطاق النصوص االمقموعة والمُهمشة. –مثلاً-؟

ج.9: نعم، إن لفظ استنطاق هو ما قلت عنه سلفا "التأويل"، ولكن للنقد الثقافي، أيعاد أخرى فكرية وفنية وجمالية، فر ينبغي له أن ينسى أنه يتعامل مع نصوص كتبت باللغة، واستعملت اللغة في التعبير عن تلك المقاصد والمواقف والمضمرات التي غلفها أصحابها بوعي أو بدون وعي، بقصد أو بدون قصد، بخطابات هي موضوعه وميدان دراسته وتأويله.

س10: هل النص الإبداعي العربي -لا زال- بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثقافي..؟ أم أنّ النقد الثقافي لم يتشكل ولم يتأسس بما يكفي في مخيال الناقد العربي..؟ وهل لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في العالم العربي؟

ج.10: هناك محاولات جادة في النقد الثقافي العربي، وقد تبنى الناقد عبد الله الغدامي هذا المشروع وقدم فيه عددا من الدراسات والكتب، ولكن عموما، في العالم ما يزال النقد الثقافي في بداياته، مع العلم أن ملامح "فلسفة" النقد الثقافي واضحة، ويمكننا في العالم العربي أن نجتهد في بناء نقد ثقافي عربي للنصوص العربية، التراثية والحديثة، واعتماد اجتهادات المفكرين والدارسين العرب، وحتى مَنْ كتب بغير اللغة العربية، ولهم اجتهاداتهم النوعية وأخص بهم إدوارد سعيد، وعبد الكبير الخطيبي، تمثيلا لا حصرا.

 

محمد معتصم

المغرب

   

 

received_455596398243527

16 novembre 2021

دراسة نقدية في رواية "عزلة الأشياء الضائعة" للونيس بنعلي

محمد معتصم/ سلا- المغرب

 

تخييل السرد العقلاني

 

الرواية القصيرة أو "النوفيلا الإيطالية"، ليست سردا جديدا، كما يدل انتسابها، إنها "صيغة تم اختبارها منذ زمن طويل في إيطاليا، وقد اعتمدها بوكاتشو في "ديكاميرون" في عام 1353" ص (198)، وكانت مَهْوَى عدد من الكتاب العرب مثل نجيب محفوظ في "الكرنك"، وإدوار الخراط في "اختناقات العشق والصباح"، وجبرا إبراهيم جبرا في "الغرف الأخرى" و"صراخ في ليل طويل"، وعبد الرحمن منيف في "النهايات" و"قصة حب مجوسية"، وصالح السنوسي في "متى يفيض الوادي؟"، ومحمد زفزاف في جل أعماله الروائية "الثعلب الذي يظهر ويختفي"، ومحمد برادة في "امرأة النسيان"، وعبد القادر الشاوي في "كان وأخواتها" و"دليل العنفوان"، ومحمود إسماعيل في "الوبر والمدد"، وعلي بدر في "ملوك الرمال"،... واللائحة طويلة بين كتاب وكاتبات من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، إنها جنس أدبيٌّ يقع بين الرواية والقصة، وفي الآن ذاته يأخذ منهما بعض خصائصهما المميزة، ولا يختلف عنهما في أهم الصفات المميزة للأجناس السردية، لذلك فمن أهم الخصائص المميزة للرواية القصيرة: السرد، سواء في معناه العام "توالي الأحداث" معتمدا في رؤيته عل الوقائع والأحداث، أي على الرواية أن تتضمن أحداثا ووقائع تكون مدار الحبكة والمعنى والغاية، أو وجهات النظر المختلفة، التي تقوم على زاوية تحديد المكان الذي يقف فيه السارد ويصدر منه وعنه السرد، وكذلك الترابط والانسجام، عندما يتم فهم السرد على أن النص المدون والمقروء، فكل نص نسيج لغوي لمتخيل قريب أو بعيد عن الواقع والحقيقة، ولا يمكنه الحفاظ على نظام التواصل والإفهام إلا عبر الحفاظ على درجة معقولة من الترابط النصي وانسجام المعنى.

إذن، الرواية القصيرة "النوفيلا"، خطاب سردي، ومادام السرد لا يخلو من الوصف، فإنها خطاب وصفي، منسجم ومترابط، له معنى.

في الرواية القصيرة "عزلة الأشياء الضائعة" للكاتب الروائي والناقد لونيس بن علي، نجد هذه الخصائص مجتمعة، رغم ما يوحي به العنوان، وما يوحي به التقسيم الخارجي للفصول، من تجزيء وتقسيم السرد إلى "مشاهد" معزولة ومستقلة، ولكن ما تراه العين ليس دائما هو الحقيقة في جوهرها، فالعين لا ترى إلا ما هو متاح لها في مجال الرؤية المحدودة من عناصر ملموسة ومادية، والمتأثرة بالعوامل المحيطة بها.

في الرواية قصص متوازية؛

1.قصة يرويها السارد والشخصية والكاتب "زهير أدهم".

2.قصة يرويها التقرير الطبي.

3.قصة يقرها تقرير الشرطة.

وبين هذه القصص الكبرى (المحكيات السردية الكبرى) هناك محكيات صغرى، تقوم بوظائف سردية ونصية وجمالية مختلفة، منها؛

1.محكي ميمون.

2.محكي موراكامي.

3.محكي أم ميمون المجنونة.

4.محكي الحلم/الكابوس.

هذه المحكيات الكبرى والصغرى، تظهر أن كتابة "النوفيلا"، يقف وراءها قناعة واختيار مسبقان، ودليل ذلك أن هذه المحكيات كفيلة بجعل الرواية مجلدا ضخما، كما أن من أوردت أسماءهم سابقا من الكتاب، كتبوا روايات كبيرة الحجم، بل هناك من كتب مجلدات مثل عبد الرحمن منيف في الأجزاء/المجلدات الخمسة لـ"مدن الملح". في الاختزال والتركيز والتكثيف تحقيق لقيمة جمالية تتطلبها المرحلة، ويتطلبها الموضوع الذي تعالجه الرواية، وذلك يسمح بتوظيف أساليب سردية متنوعة منها؛ السرد المتدفق في حالة الحلم والتأمل والحوار الداخلي، والحوارات القصيرة، وكذلك الحوارات السردية/المسرودة، وهي الحوارات التي تقوم على سرد الوقائع بدل الحوارات التي تكون قائمة على السؤال والجواب، فالحوارات المطولة بين الطبيب النفسي والسارد، تهيمن على السرد ولكن من خلالها يتم التمييز في الرواية بين عالمين متوازيين مختلفين؛

1.عالم السارد "زهير أدهم"، وهو مدوِّنٌ وناشط سياسي، يؤسس في محكيات لسردين، الأول واقعي (واقع الحكاية) يتعلق بموت الأب وآثار ذلك على السارد، وآلام الفقد والعزلة الذاتية، ستفتحان أمامه أبواب السرد الثاني الباطني (داخل السارد في الحكاية).

2.عالم الطبيب النفسي والمفتش علي ورفيقه كريم، وكم يؤسسون لمتخيل سردي واقعي (طبيعي)، توحي به إشارات السارد، والتي تمثل بناء الخطاب القبلي، المحسوم لصالح الحقيقة المطلقة، حقيقتهم.

اخترتُ التركيز على هذين العالمين، لإبراز الصدام كمحرك للسرد، الصدام بين متخيلين، أو الصدام بين الرغبة والواقع، الصدام بين الحقيقة السردية، التي من أجلها بني السرد وكتب النص، والحقيقة المفتعلة، وهي الحقيقة المغلوطة (الخطاب المغالط) الذي تروجه عادة جهات مجهولة متحكمة (خطاب السلطة)؛ الإعلام والمؤسسات المختلفة، إنه أيضا صدام بين الحقيقة والسلطة. يقول السارد في الفقرة التي أنهى بها (قفلة) النص الروائي:" إنهم مستعدون لأن يبيدوا سكان المعمورة لأجل الدفاع عن حقيقتهم" ص (91)

تروي القصة الواقعية (واقع الحكاية) كما جاءتْ في النص الروائي، آلام زهير أدهم التي فجرت داخله حالة من الحزن الشديد، وشعور بالفقدان، وشعور بالذنب كذلك، جراء وفاة والده، وفاة لم تكن متوقعة، لأن الأب أدخل المستشفى بعد إصابة خفيفة، لكن الشعور بالذنب يأتي بعد لوم الذات نفسها، ما الذي منع الدموع عن الانهمار غزيرة على موت الأب؟ وهل ذلك نتيجة الصدمة، التي تجعل شعور الإنسان في الواقع متبلدا لحظة وقوع الحادث؟ هل يرجع ذلك لالتباس معنى الموت في أذهاننا؟  الأهم في هذه الحالة "السؤال"، بالرغم من أن السرد يقوم على وضع وقائع تستدعي فاعلين وفضاء روائيا، فإن السؤال في هذه الرواية يحدد واحدة من أهم خصائصها والمتمثل في أن السرد في هذه الرواية سرد للأفعال أكثر منه سرد للأحداث والوقائع، أي أن السرد في "عزلة الأشياء الضائعة" تهتم بالأفكار، وبهذا تحدد نسبها السردي والتخييلي، إنها رواية فكرية، تطرح الأفكار وتعالجها باعتماد زاوية نظر مختلفة عن السائد، كما نجد في روايات قصيرة كذلك لكتاب عالميين أذكر من بينهم على سبيل التمثيل فرانز كافكا، وهيرمان هيسه، وأدري جيد، وستيفان زفايغ، وميلون كنديرا، وهؤلاء يمكن أن أقول عنهم بإعادة تركيب مصطلح جان بير فاي "العقل السردي" إلى "السرد العقلاني"، لأنهم في الحقيقة لا يكتبون "الرومانس"، الروايات القصصية، وهي تلك التي ظلت سجينة الرؤية الظاهراتية، التي تريد تفسير العالم ولكنها لم تستطع تجاوز حدود الواقع الاجتماعي والصراعات السياسية من أجل السلطة وتعاقب الحكم، وكأنها الوجه الآخر للمؤرخ أو المحلل الاجتماعي، بينما السرد العقلاني، فإنه يذهب نحو العوالم الخفية، يذهب وراء الحقيقة الظاهر، الحقيقة التي تبحث عن العلية والسببية، عن الحقيقة التي تحتاج إلى تعليل ومبررات منطقية "متداولة" و"متعارف عليها" أي تبحث عن مسلمات، تلك التي تطمئن إليها السلطة التخييلية، وهذا الذي جعل الفهم مستحيلا بين خطابي "زهير أدهم" من جهة و"الطبيب النفسي"، فبقية حكاية زهير أدهم بالنسبة للطبيب النفسي مجرد خرافات وألاعيب العقل البشري، أي الأوهام التي يفرزها العقل البشري في حال الصدمات الكبرى، أو عند اصطدامه بغير المألوف والواقعي "المَعيشِ"، فكيف لرواية: "الغابة النرويجية" للكاتب موراكامي، أن تكون سببا في ارتكاب جريمة؛ جريمة متعددة الأبعاد:

1.موت الأب.

2.قتل الكاتب موراكامي.

3.قتل الكاتب الروائي "عامر الغزال" المعروف باسم ميمون.

تذكرني مسألة قتل الرواية للأب، بما يعرف في الأدب العربي بأدب التشاؤم، وهو ما ورد في الدراسات النقدية حول الشاعر "ابن الرومي"، حيث قيل عنه، أن تشاؤمه لم يقض عليه فقط، بل أصابت لعنته من اقترب من دراسة شعره، ومنهم ما حدث لطه حسين، بعدما كتب عن "ابن الرومي"، وكذلك ما حدث لعباس محمود العقاد، فبعد ما أنهى دراسته عن "ابن الرومي" تم سجنه. لا أعرف مدى صحة هذا التفاعل الملعون بين بعض الكتب وقرائها، وقد عرف ابن الرومي بالتطير، وهذه الظاهرة ليست غريبة على مستوى التخييل السردي، فالرواية وجهة نظر، وهي أيضا خطاب ووسيلة من وسائل التعبير الكثيرة، وكما يتشاءم المرأء من الأشخاص والأشياء يمكنه التطير من بعض الأعمال الروائية، وعلى مستوى الواقع نجد هذه الظاهرة متداولة ومنتشرة، لكن استثمارها في بناء سرد تخييلي عقلاني، الاستثمار الجيد، يفتح أبوابا مشرعة أما التأويل، ومن وظائف التأويل،الأساسية، تحرير القارئ من سلطة المعرفة السائدة، والتفكير النمطي، والنماذج المتكررة، التي قد تتحول مع الوقت إلى تمثلات ذهنية تتحكم في السلوك والوعي.

أما قتل الكاتب "موراكامي"، فهو لا يختلف عن مبدأ "قتل الأب" في التحليل النفساني الفرويدي، والمعروف تحت مفهوم "عقدة أوديب"، وقد أورد الكاتب لونيس بن علي إشارة إلى هذه العقدة، كما أنه وجه تفكير القارئ منذ البداية عندما عنون الفصل الأول "في مصحة الاعتراف"، ومادامت الرواية خطابا سرديا، محكما، حتى في حال تشظي النصي، فإن كل كلمة فيه تقوم بوظيفة دلالية، أي أنها يوحي بالمعنى وتوجه وعي القارئ نحو نتائج بعينها والأهم أنها تدخله في عالم تخييلي خاص، وكلمة "مصحة" كلمة مثقلة بالدلالة، وكذلك كلمة "الاعتراف"، فهي ليست كلمة عادية التزيين ، غنما هي مفهوم ومصطلح مثقل الدلالة. خاصة إذا انتبه القارئ إلى هيمنة "ضمير المتكلم" في السرد في "عزلة الأشياء الضائعة".  

إن كل كاتب حقيقي وطموح لا بد أن يقوم بجريمة القتل تلك، للآباء الرمزيين، يقول السارد:" إن الرواية هي مسرح مثالي للجريمة المثالية" ص (65)، ويضيف:" في كوخ الغابة، كنت مع موراكامي. كما أخبرتك. في تلك الغابة، انتقمتُ منه.. قتلته. فدفنته داخل حفرة عميقة. كانت هناك منذ الأزل، تنتظرني. هل وجدتم جثته، ابحثوا عنها جيدا، لا يجب أن تيأسوا فهي مدفونة في عمق حفرة سحيقة." ص (68)

إنه العالم التخييلي الخاص بزهير أدهم، العالم الذي تقع أحداثه داخل الإنسان؛ داخل عقله ونفسه وتفكيره، وفي مجرى لسانه، إنه عالم مجهول بالنسبة لكثيرين، وبالتالي فمنطقه ملتبس وغير مفهوم عندهم، لذلك فالسرد العقلاني، يختلف سرد الظواهر الخارجية، وإذا كان سرد الظواهر سببيا وعليا، فإن السرد العقلاني (الفكري والثقافي) له علل الخاصة والمختلفة، إنه التخييل الأدبي، كما سلف وذكرت في "المتخيل المشترك"، والمتمثل في بناء تخييل روائي على أنقاض تخييل روائي سابق، أو الدخول معه في جدال فني وفكري وأدبي، وهو ما قام به الكاتب والباحث لونيس بن علي في هذه الرواية القصيرة، لكن العميقة، والمتسعة الأطراف من خلال الأعمال الروائية التي تحاورها، ومنها؛

1.الغابة النرويجية لموراكامي.

2.اسم الوردة لإمبرطو إيكو.

3.الكوميديا الإلهية (الجحيم) لدانتي أليغريا.

4.المحكامة لفرانز كافكا.

5.كلاب غالغامش لشاكر نوري.

إنها رواية ذكية، تنبئ بانفتاح مسار جديد في الرواية العربية، تحاور الأعمال الروائية من منظور جديد، ومن زاوية التفاعل الواعي، ولأجل "إعادة قراءة" النصوص المؤسسة للسرد الإنساني، ومن ثمة "إعادة تجديد الوعي" السردي المعاصر.

هذا العالم التخييلي يقابله عالم نقيض، إنه عالم السلطة الذي يقوم على الأحكام المسبقة والجاهزة، لذلك، قام الطبيب بكتابة تقرير يدين الكاتب "زهير أدهم"، لأنه أولا واقع تحت سلطة التحليل النفسي، أي تحت سلطة مورد رزقه، كما هي لحقيقة في لواقع، فغالبا، إن لم يكن دائما، الطبيب النفسي، يرى الناس جميعا مرضى، ولا تعوزه القدرة على إيجاد المرض بالبحث في القاموس الموسوعي الضخم للعقد والأمراض النفسية التي تتداول حتى على ألسنة العامة، ويمكن التأكد من ذلك في دراسات كثيرة قام بها محللون نفسانيون لشخصيات فنية وأدبية وحتى دينية، فقد تحدث إريك فروم عن عقد النبي "يونس"، وخص فرويد كتابا في الموضوع بعنوان "موسى والتوحيد"، وليس بريئا روائيا وفكريا جمع الكاتب بين الطبيب النفسي والمفتش علي ورفيقه كريم، فهما سلطتان تكملان بعضها، وتبعا لتلك العلاقة الحميمة والمتينة دبَّجَ الطبيب "تقريرا" يدين الكاتب "زهير أدهم"، لإخفاء جريمة "أصحاب البذلة السوداء" الذين اعتقلوا ميمونا، وهو ما أخبرت به أم ميمون زهير أدهم في الغابة قبل اختفائها. ليس الطبيب النفسي من يخدم أصحاب البذلة السوداء، ولكن الإعلام أيضا، بشتى أنواعه، وهو الذي عمم الخبر الآتي ليصبح حقيقة راسخة في الأذهان:" ألقت قوات الأمن القبض على المدون والمعارض السياسي زهير أدهم في غابة الجبل الأزرق، بعد ضلوعه في جريمة قتل راح ضحيتها الكاتب عامر الغزال." ص (90)

إن رواية "عزلة الأشياء الضائعة"، ليست فقط قصة رجل حزين اكتشف بعد موت أبيه معاني جديدة ينبغي أن تدخل قاموسه الشخصي، وهي: الموت، القتل، الانتقام، الجريمة، الحزن الشديد، الهذيان، الانتحار، لكنه في الوقت ذاته سيكتشف أن كل شيء يحدث أثناء المشي، المشي مع ميمون والمشي مع موراكامي، وكلاهما سينتهي بجريمة، تقع الجريمة المثالية في الغابة، غابة الجبل الأزرق، لكن أين تقع تلك الغابة؟

تقع في مكان سري جدا وسحيق، إنه داخل الشخصية/ السارد؛ زهير أدهم. كل شيء حدث فعلا في داخل الكائن، العالم الذي لا يمكن اكتشافه إلا بعد مواجهة الكائن لنفسه، والتعرف عليها، أي التعرف على ذاته ثم الانهمام بها كما يقول فوكو، وليس في المرآة كما يقول جان بياجي، ولكن بعد صدمة قوية، ذلك النوع من الصدمات الوجودية والمصيرية التي يدرك الكائن بعدها شعور الفقدان، أي أنه فقد شيئا عزيزا عليه في غفلة منه، وتسعى الذات جاهدة في البحث عن طريق وعن طريقة لاستعادته، فنزول تليماك إلى الحجيم كان بهدف البحث عن والده أوليس، والعودة به إلى البيت، حتى يحمي ملكه من الضياع ويحمي زوجته "بينلوب" من تهافت "الخطاب"، ويحمي ابنه من استبداد الأقوياء. كذلك نزل دانتي إلى الجحيم لاسترداد ابنته التي أخذها الموت، أما زهير أدهم، فقد نزل جحيم الهاوية، العزلة القصوى، جحيم الأعماق النفسية السحيقة، سواء في أكان النزول في صورة توغل في الغابة الهلامية للجبل الأزرق مع ميمون، على طريقة "المشائين" القدماء، الذين ينشرون المعرفة بين الناس عبر الحوار والسؤال وتفكيك المعاني الأنطولوجية للأشياء والكلمات والصور، أو عبر دفن الكاتب الملعون "موراكامي" نحو الحفرة السحيقة، يقول زهير أدهم:" أحسستُ بالفزع، شيءٌ ما خالف قوانين الطبيعة. لا يعقل أني لن أرى أبي. هل يمكن أن موت العجوز [موراكامي] حرره من اللعنة؟ أبي لم يمت إذن، بل غاب فقط، كان سجين لعنة خرجت من رواية موراكامي..." ص (75)

كل شيء وقع في غابة الداخل، في فكر ونفس ومخيلة الكاتب زهير أدهم، إنه تركيب مضاعف، أعني عالم زهير أدهم الداخلي الذي يقع داخل المحكي السردي (المتخيل)، الذي يقع داخل اللغة. أي داخل عالم رمزيٍّ متعددِ الدلالةِ ومنفتحٍ على آفاقٍ واسعةٍ من التأويل.

يتشكل المتخيل الروائي في "عزلة الأشياء الضائعة" من مثيرات (مؤثرات) تقوم بعملية توجيه الوعي وبناء الدلالة، من قبيل: الطبيب النفسي والمفتش علي ورفيقه كريم، والأم المجنونة، والغابة الهلامية، وقوات الأمن، والهوة السحيقة، والحزن، والمصحة، والموت والانتقام والانتحار.

ليس كل ما نراه هو الحقيقة المطلقة، بل هو مظهر جزئي وممكن، كما ليس كل ما لا نراه غير موجود، فكثيرة الأشياء التي تحيط بنا ولا ندركها إدراكا حسيا (la perception)، ولكننا نستطيع وعي وجودها بإمكانات عديدة، ومن أهمها بالنسبة للمبدع: الكتابة. إن الكتابة آلة وعي الأشياء والصور والكلمات بعيدة الإدراك حسيا.

 

 

عزلة الأشياء الضائعة: لونيس بن علي، الجزائر تقرأ، ط.1، 2018م     

           

15 novembre 2021

قراءة نقدية في رواية دينا سليم حنحن/ ما دونه الغبار

محمد معتصم/ سلا- المغرب

 

الرواية العربية والتهجير

 

لعلَّ الرواية العربية المعاصرةَ، أكثر الخطابات الأدبية والإبداعية اليوم، تعبيرا عن حالة العربي المعاصر، وأكثر وصفا الاضطرابات التي يتخبط في خضمها، ويمثلها أشد تمثيلا: التَّهجير القسري أو الهِجرة الطوعية، وفي هذا السياق سأكتب عن رواية جديدة ستصدر قريبا للكاتبة الفلسطينية المقيمة بأستراليا دينا سليم حنحن، تحمل عنوان "ما دونه الغبار".

أهم ما شدني إلى رواية "ما دَوَّنَهُ الغبار" ليس المضمون في حد ذاته على الرغم من أهميته وتأكيده حقيقة ما تناولته روايات فلسطينية كثيرة، ولكن الصيغة التي اختارتها الكاتبة الروائية والإعلامية دينا سليم، والمتمثلة في تخصيص قسم مهم من الرواية لرواية "شهادات" حية على ألسنة شخوص حقيقيين، عاشوا النكبة ويعيشون في شتات العالم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، يروون "مشاهداتهم" العينية، و"تجاربهم" الشخصية الحية أيام سقوط مدينة اللد ومدينة الرملة في أيدي عصابات صهيونية عنيفة ومحتالة، وما رافق ذلك من "خيبات" عسكرية و"خيانات" من ذوي القربى، ومن خيانات الدول العظمى والدويلات الضعيفة والدويلات التي كانت تبحث لنفسها عن مكان على هذه الأرض، خدمة لشهوتي السلطة والمال.

فالشهادةُ تدوين اعتراف شخصي، وهي أيضا تأريخُ الشخص للأحداث، ووصفٌ آنيٌّ وعيني، برواية شاهد عيانٍ زَامنَ حضور وقوع الحدث أو الأحداث أو قد يكون مشاركا فاعلا في صناعتها. ورغم أن الذات حاضرة بقوة في الشهادة، كونها مصدر إنتاج الخطاب، إلا أن الحدث يكون متقدما عليها زمنيا، لأنها تدوين لاحقٌ تتمثله لحظة الكتابة والاسترجاع.

ومن ثمة فالشهادة وثيقة شخصية تروي الأحداث من عدة زوايا، منها:

  1. موافقة الرواية الرسمية.
  2. مخالفة الرواية الرسمية.
  3. تكملة نقائص الرواية الرسمية.
  4. إضاءة الرواية الرسمية.
  5. إبراز الأحوال النفسية المصاحبة لوقوع الحدث.
  6. الاكتفاء برواية الحادثة دون البحث عن أسباب وقوعها، أو تبرير وقوعها.
  7. تقف عند التفاصيل الدقيقة التي تهملها الروايات الرسمية.

لذلك فصاحب الشهادة يؤدي وظائف منها، الوظيفة الإعلامية (وظيفة الصحافي الحر)، والوظيفة التأريخية (وظيفة المؤرخ غير الرسمي).

في روايتها "ما دونه الغبار"، تركز دينا سليم وشهادة الشهود على الهدف الأساس من الهجمات العنيفة على المواطنين مقيمين وأهل البلد، مسلمين ومسيحيين ويهودا استقروا قبل وضع اليد على فلسطين بعد خروج المستعمر البريطاني، لقد كان الهدف الأساس هو إفراغ المكان من أهله، إجلاؤهم بأية طريقة، سواء بالقتل (التصفية الجسدية) أو إبعادهم إلى البلدان المجاورة، كالأردن أو لبنان، أو تجميعهم في مناطق محددة، الضفة ورام الله. وهكذا نشأت الدياسبورا (Diaspora) العربية الحديثة والمعاصرة.  

إذن، هكذا ورث العربي الحديث والمعاصر تركة اليهودي الذي احتل أرضه وأخرجه منها أول مرةٍ، فحتى في فترة الاستعمار والحماية ظل العربي الذي ورث الضعف والخنوع جراء العنف والإهمال والتهميش، وفي ظل الصراعات الدامية على السلطة محليا، أي في البلاد العربية، ظل العربيُّ يقاوم من أجل التحرر الفكري والذاتي، ومن أجل تحرير الأرض والممتلكات، لكنه مع الاستيطان، خضع وساهم بدوره في سياسة إفراغ المجال، وتجلية الإنسان من مكان إقامته، وهو ما يسمح للمستوطن، بتأسيس دولة، ليس على الأنقاض، بل بالاستحواذ على الممتلكات، بل على مجموع الحضارة من عمران يمتد في عمق التاريخ، يدون مراحل متعاقبة من التناوب بين القوة والسيادة والاستقرار والضعف الانحطاط، ومن إنتاج ثقافي (اللباس والطعام) وفكري وأدبي عالم وشعبي.

ترسمُ رواية دينا سليم "ما دونه الغبار"، بعين مجهرية هذه الفترة بالذات، فترة التهجير، وتؤكد على أن الترهيب والترويع والتقتيل الذي صاحب سقوط مدينة اللد، وقبلها القدس ومدن أخرى معَيَّنَة، أي مستهدفة مهيَّأٌ لضمها، في المخطط الأولي، كان الهدف منه: التَّهْجِير وإفراغ المكان من الناس، ففي الشهادات وفي المتن السردي تتكرر عبارة باللهجة الدارجة على لسان المستوطنين:" اذهبوا عند عبد الله"، والمقصود هنا الملك عبد الله الأول ملك الأردن.

تنهض محكيات رواية "ما دونه الغبار" على الخلفية التاريخية والسياسية، وهو ما يدل على أن الكاتب الروائي والكاتبة الروائية العربييْن يعيان جيدا أهمية التاريخ والسياسة في مصير الأمة، كما أنهما، عبر ذلك، يخبران القارئ، بأن ما يجري حاليا، ليس وليد الصدفة، لأن الصدفة لا محل لها في التاريخ، بل هو وليد التفاعلات السياسية والاتفاقات السرية ولحظات الضعف والخيبة والخيانة والخذلان، وأن أمل النهوض والتحرر وتحرير الأرض والإنسان، يبدأ من ههنا، من تشريح أسباب السقوط، بمشرط الحقيقة، ومجانبة الزيف، وبدون ذلك فإن نزيف التهجير والتغريب سيظل مسترسلا، وكلما أُفرغ مكان من أهله انتقلت قوى الظلام والنفوس الجشعة للسلطة والتحكم إلى مكان آخر إلى أن يتم إفراغ كل الأمكنة (بلاد العربية) من كل هوية أصيلة.

لقد وجد شخوص رواية دينا سليم الاستقرار في الدول المضيفة، وبدأ كثير منهم حياة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، وكثير منهم عاد لزيارة مدينته الأصل، ولكن بهوية جديدة، رغبةً في التذكُّر وفي لم شمل العائلة، وصلة الرحم.

هل الهجرة هي الحل؟ وهي حل لمن؟ ولماذا؟

لا أطرح هذا الاختيار على المواطن العربي المقهور والأعزل والمستهدف في حياته ووجوده من قومه ومن غيرهم، بل أطرحه على المسؤولين السياسيين الذين بأيديهم السلطة والقرار. إن الإنسان العربي مقهور ويقع بين فكي البقاء في بلده والرحيل عنه، وكل إنسان يحمل في داخله نزعة حب البقاء ومقاومة الفناء، لذلك فإنه سيختار مكرها الرحيل نحو آفاق أرحب، فالوطن حيث الاستقرار والكرامة، وإنْ لم تكن الكرامة، هناك، تامة وشاملة لكل نواحي حياته، ومن سيختار البقاء تحت الجحيم فلأسباب، غالبا، ضعف الحيلة وقلة ذات اليد. وهو ما يفسره الهروب الجماعي المنظم من قبل واجهات دولية خيرية وحقوقية، أو غير المنظم الذي تستفيد منه عصابات التهجير والترحيل من تجار الحروب والأزمات، وهي ظاهرة للأسف الشديد، تاريخية وذات عمق بعيد.

تقوم رواية دينا سليم "ما دونه الغبار" على أربع محكيات متداخلة ومتضافرة:

  1. محكي سيري يتعلق بأسرة رشدي وجميلة، ومن خلاله نتعرف على الجدين، وعلى قيمة الوفاء والصبر والمقاومة في شخص الجدة "جميلة"، المرأة الذكية القوية المكافحة الوفيَّة لذكرى زوجها رشدي، الذي خرج في ذروة الاضطراب وقلاقل الاستيطان، ليختفي فلا يعلم أحد إن مات أو اعتقل أو رُحِّلَ من المرحَّلين. ليظل لغزا وعلامة على مرحلة الفوضى والاضطراب.
  2. محكي مدينة اللد، وهو التاريخ المنسي، أو التاريخ غير الرسمي، الذي جرى على لسان الشخوص سواء خلال المتن السردي أو في "شهادات" الرواة المتدخلين في تدوين الأحداث المتزامنة مع لحظة سقوط المدينة، وشهاداتهم ومروياتهم ذات قيمة كبيرة جدا في كشف الحقائق التي جرت على أرض واقع مدينتي اللد والرملة، وهي تختلف حتما عما تم الاتفاق عليه سرا وفي الغرف المغلقة بين المسؤولين السياسيين (المُفاوضين)، حيث السياسة تعني تبادل المصالح الشخصية والحفاظ على الامتيازات المالية والاجتماعية.
  3. محكي شخصي، وهو مجموع المحكيات التي تضمنتها "شهادات" الشخوص، والتي تتميز بالتطابق، وبالتكرار، تطابق الروايات وبتكرار الحوادث مما يفيد التأكيد. ولا شكَّ أن مرويات الشهادة تضيء عتمة كثير مما حدث ومما كتب حول هذه المرحلة تاريخيا وسياسيا وأدبيا.
  4. محكي الاستيطان، وهو محكي يُستنبط من المحكيات الثلاثة ويكشف وجوها أنتجتها المرحلة/ اللحظة، كالنهب واللصوصية، والاحتيال، ومقابل ذلك، التعاون والتضامن والوحدة بين أفراد الأسرة/العائلة والجيران، إنها تناقضات المرحلة، وتكشف في الوقت ذاته، كيف تحول تآلف وتعايش المسيحيين والمسلمين واليهود إلى خيانة، عندما احتل بعض اليهود بيوت جيرانهم الفلسطينيين، والأخطر كيف تقمص اليهود العرب دور الفلسطيني لتعبيد الطريق نحو دخول وانتشار العصابات اليهودية العنيفة (الهغانا)، بعدما قامت به العصابات ذاتها من تخريب وعنف ضد الجيش الإنجليزي، كما ورد في الرواية، نقلا عن مصدر حكومي بريطاني، تقول الكاتبة:" وصلت سرا أفواجٌ من اليهود النازحين إلى الموانئ الرئيسية في فلسطين، في المقابل، ساهمت العصابات اليهودية مساهمة عظيمة بإخراج الجنود البريطانيين من فلسطين، مستخدمة وسائل العنف والبطش والحيل".

هناك علامة فارزة في رواية دينا سليم "ما دَوَّنَهُ الغبار"، على الرغم من أن كل مستويات المحكي في الكِتاب تعتمد على المحكي السيري، إلا أن الكاتبة تُجَنِّسُ عملها "رواية"، ويبدو لي أن ذلك لا يخصُّ جنس الرواية مباشرة، بل يحيل على الصيغة المهيمنة والمهمة في العمل، وهي لجوء الكاتبة إلى اعتماد الحياد أي اتخاذ الجانب الموضوعي في تدوين الوقائع، وخاصة في الشق المتعلق بتدوين "شهادات" الشخوص، إنها تقوم بدور "الرَّاوِية"، كما هو متعارف عليه في الثقافة العربية الكلاسيكية، راوية الشعر، الذي لا يروي أشعاره (ذاتيته)، بل يكتفي برواية أشعار غيره بـ"صدق" و"موضوعية".

لم تجد دينا سليم حنحن، بدا من وضع عتبة نصية سمتها "ملاحظة"، للتشديد على موضوعيتها في نقل الأحداث والوقائع كما سمعتها مِمَّنْ زامنوا لحظة سقوط مدينة اللد وقبلها مدينة الرملة بعد مقاومة شرسة، والحديث عن الحياد فرضته الصيغة السردية، والطابع السيري (Biographique) للخطاب الروائي، لأن أهم المحكيات كما سلف الذِّكر، تتمحور حول: سيرة الجدين (رشدي وجميلة)، وحول تاريخ العائلة؛ أصولها القديمة وفروعها وإقامتها باللد، وعملها، ثم سيرة الخروج والشتات، تُمَّ العودة من أجل لم شعت العائلة، إنها سيرة وطن من خلال سيرة مدينة، وسيرة مدينة من خلال سيرة عائلة، أما الذات الساردة فهي تتجنب السقوط في سرد محكي ذاتي (Autobiographique)، من وجهة نظر أحادية السارد، تقول الكاتبة في العتبة النصية/ الملاحظة:" اتبعتُ موقف الحياد بما يتحتم عليَّ نقله لخدمة العمل الأدبي، وذلك من خلال تدوين الأحداث، ونقل المعلومات، والشهادات التي جاءت على ألسنة المتحدثين، ومما يقضي التنويه له أن ما تم نقله لا يعني بالضرورة أنه يعبر عن وجهة نظر الكاتبة."

في رواتها الجديدة "ما دونه الغبار"، تطرح الكاتبة الفلسطينية المقيمة في أستراليا دينا سليم حنحن، قضية الإنسان العربي المسلم والمسيحي على حد سواء، والمتمثلة في الخطة المنهجية المتبعة ضد نهوض هذه الفئة من البشر المميزين ثقافيا وحضاريا (مدنيا) وتاريخيا وفكريا سلوكا، والعمل الجاد على عزلهم في غيتوهات، مع نشر ادعاءات إعلامية مدعومة بحجج وبراهين مفبركة ومغرضة، جعلت منهم إرهابيين وهمجًا، متخلفين لا ثقافة ولا حضارة ولا مدنية ولا علوم ولا إسهام لهم في تطوير الحضارة الإنسانية العالمية، ولعل في هذه الإشارة إلقاء بعض الضوء على ما يجري حاليا ضد كل من يصنف نفسه ضمن خانتي: العربي والمسلم من أي بلد أو قارة. إنه حصارٌ سياسيٌّ تُساهم فيه بقوة طبقة اجتماعية وسياسية مدعية.

لقد اختارت الكاتبة تجنيس كتابها "ما دونه الغُبار" تحت مسمى "رواية"، والحقيقة، وبحسب المتن، الذي اعتمد في أساسه على سرد قصة العائلة وتاريخ نشأتها ومقدمها خاصة الفرع الذي سكن مدينتي اللد والرملة في فلسطين أيام الانتداب البريطاني والاستيطان وبداية النكبة، ثم التهجير والهجرة والشتات، فإن مصطلح "رواية" لا يعني التحديد الأجناسي للكتاب، بل هو التحديد النوعي، ويعني "السرد"؛ النص السردي، والذي يدعم ذلك وبقوة الجزء المتضمن للشهادات، وهو ما يجعل الكاتبة "راوية"، أي وسيطا بين القراء وأصحاب الشهادات.

يخرج قارئ رواية "ما دونه الغبار" بفكرة وحيدة مهيمنة، سواء في المتن السردي أو في الشهادات، أن إفراغ المدن من سكانها الأصليين هو الهدف والمرمى الأساس من النكبة، وكل الجهات المتصارعة تنشد ذلك؛ خاصة العصابات الصهيونية، الذين سعوا جادين، عبر القتل والترويع والرهيب، إخلاء البيوت من ساكنيها وتسليمها لليهود المستقدَمين من أنحاء العالم، والاستيلاء كذلك على ممتلكات الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، ممن لم يفروا قبل المواجهة بمدخراتهم وعائلاتهم نحو الأردن (عند عبد الله)، أو لبنان، أو التوجه نحو رام الله. تقول الكاتبة:" تصل سفن اليهود ليلا، تستقبلهم دوريات من العصابات اليهودية، وترتّب لاستيعابهم سراًّ في الموانئ، في المقابل، يخرج العرب في النهار، من الموانئ ذاتها إلى بيروت، يعني العرب يغادرون واليهود يدخلون"، لهذا تظل فكرة "عودة اللاجئين" نقطة خلافية، بل محورا معتما، ومنسيا، لا ينبغي طرحه لتسوية الخلاف/الصراع. ويعكس ذلك الوجه المظلمَ للجهات التي ساعدت وتاجرت بتهجير وبإفراغ المدن الفلسطينية من سكانها والبيوت من أهلها، والزج بهم في متاهة التغريب الذاتي والوجودي، والمصير المؤلم تاريخيا وإنسانيا.

دينا سليم حنحن روائية متمرسة، كاتبة بالطبيعة، كاتبة محترفة، اتخذت من الكتابة خاصة السردية وسيلتها في التعبير عن مواقفها وآرائها، وعبرها كذلك توجه وتبدع ضمن جمالية سردية تزاوج بين الإبداع الأدبي التخييلي ومساءلة الإنسان والمرحلة والواقع، وهي بذلك تمنح الكتابة حقيقتها التي وجدت من أجلها، أي أن الكتابة لم يوجدها الإنسان الأول للمتعة فحسب، بل كانت وسيلة الإنسان في تحقيق المعرفة، بمعنى فهم الواقع وأحداثه، والوقوف على الأسباب الكامنة وراع تحقيق سعادة الإنسانية أو الأسباب الكامنة وراء نشوب الحروب والصراعات بين الشعوب والدول في المعمورة، وكانت وسيلة الإنسان في التحكم في الواقع الشاسع، والتعرف على الفروق المعرفية والاختلافات الثقافية، لأجل الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التي تحير فكر الإنسانية حتى الآن.

هذه المستويات يمكن الوقوف عليها في الرواية الحالية للكاتبة دينا سليم حنحن "ما دونه الغبار"، إنها رواية تحتفي بالسرد والحوار، اللذين يمنحان شخصياتها فرصة الاقتراب كثيرا من الشخوص في الواقع، وهي تقنية كتابية ذكية، تجيب عن إشكالية قائمة في الدرس النقدي بين التوفيق بين الواقع المعيش والتخييل الأدبي، لذلك نجد الرواية تشبع رغبة القارئ الأديب والمحلل النفساني وعالم الاجتماع، والمؤرخ.

وهي رواية مثقفة، لأن الكاتبة انتهجت فيها طريقة جديدة، وهي مغامرة في الآن ذاته، لقد اعتمدت على البحث والتدوين والتوثيق، لأهم وأخطر مرحلة في التاريخ المعاصر في فلسطين والشرق الأوسط، وعبر المتن السردي والتخييل الروائي في "ما دونه الغبار" يمكننا استشراف الواقع الاجتماعي والحالات والوضعيات النفسية وآفاق التفكير في المنطقة العربية وعالميا. إن الإجابة عن هذه المعادلة في رواية دينا سليم وحده يكفي بأن يجعل هذا العمل رائدا في مجال الرواية المعرفية عند المرأة الكاتبة، دون نسيان المجهود الكبير المبذول في جمع الوثائق والتنقيب عن الحقائق وجمع شهادات الأحياء والسعي وراءهم في بلدان مختلفة من العالم. لم تكن رواية "ما دونه الغبار" احتفاء بنضال وصمود أهل مدينة اللد وسكانها، ولم يكن فقد احتفاء بأفراد أسرة وعائلة الكاتبة، بل كانت مرآة صادقة حريصة على توخي الدقة ومجانبة الذاتية الفردانية لتمثيل واقع أهلنا في فلسطين والعام العربي (الشام والشرق الأوسط)، ودور وتأثير دول العالم في هذه المحنة. لم تكن الكاتبة دينا سليم حنحن محابية لطرف على طرف آخر، بل سعت خلف الحقيقة الأقرب إلى الواقع، في أسلوب سردي  وحواري (شهادات)، شائق. لن يعدم القارئ في هذه الرواية متعة القراءة وسردية التخييل، وشغف التاريخ ودقة التدوين والتوثيق.    

 

 

ما دونه الغبار؛ دينا سليم حنحن، قيد الطبع والنشر.

 

 

    

 

 

Publicité
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 > >>
Publicité
محمد معتصم
Archives
Publicité