Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
محمد معتصم
Derniers commentaires
Newsletter
Catégories
محمد معتصم
  • تتضمن المدونة عددا من المقالات والدراسات، والأخبار الثقافية والآراء حول المقروء والمنشور والمتداول في الساحة الثقافية. مع بعض الصور
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
27 juin 2022

مقالة في ديوان رجاء الطالبي الحديث "أوراق أوندروميدا" الصادر عن دار فضاءات 2022م

محمد معتصم

 

أوراق أندروميدا

 

الكتابة ملاذ تحتمي به الذات في مواجهة مخاطر الوعي القبْـ(بَـ)ـلي، مثلما واجهتْ "أندروميدا" (Andromède) خطر الموت ضحيةَ لوعي القبيلة ومعتقداتها المتوارثة من جهة، ومن أخرى ضحية الخوف ومواجهة القبيلة ذاتها لمخاطر المجهول (غضب الوحش البحري)، تُقَيَّدُ أندروميدا بالأغلال إلى الصخرة العتيدة في انتظار قدوم الوحش "البحري" إله البحار "بوسيدون" في الفكر الأسطوري اليوناني، لولا البطل "بيرسي" (Persée) الذي قضى على الوحش "ميدوزا" التي تصيب من نظر في عينيها مباشرة بالتحجر، واستخدمها ودمَها وسيلة للقضاء على الوحش البحري ومن ثمة قامَ بِتخليص الفتاة الجميلة "أندروميدا" من مصيرها المحتوم.

هذه الخلفية الأسطورية، ليست مجرد خرافة كما يتم تداولها اليوم، بل هي وعي وتفكير ساد في فترة لم يكن فيها الإنسان قد بلغ بفكره وعقله الدرجة التي ترتفع به على مستوى الطبيعة وخوارقها، فقد كان الإنسان في بداياته كما ترى نظريات الفلسفية والنصوص التاريخية الخاصة بالبحث في طفولة البشرية، وكذلك كان في مصر الفرعونية، فكلما واجه المصريون القدماء مصيبة فيضان نهر النيل، يقذفون بأجمل عروس إلى إله النبيل الخفي الملحاح المتعطش للدماء وأجسام الصبايا الفتية الطرية. إن الأساطير كانت طريقة تفكير بدائية، ولكنها معقدة كونها حكايات منظمة ومحبوكة ومنسجمة ومؤثرة، تسعى إلى احتواء الظواهر الطبيعية والاجتماعية والسياسية وكذلك الإشكاليات المركبة التي لم يكن العقل البشري قادرا على فهم وتفسير وشرح أسباب حدوثها. وتلك الأساطير اتخذت اليوم صورا مختلفة نظرا للتركيب الشديد الذي وصل إليه العقل البشري اليوم.

لقد تم تعويض الأسطورة باللغة من جهة، وبالكتابة من جهة أخرى، فكانت الكتابة تجربة انتقال من الواقع في صلابته وفي اتساعه وتعدديته وتناقضاته إلى المتخيل الذي يعمل فعل التخييل فيه إعادة ترتيب العالم، وكذلك خلق قدرة قوية على إعادة بناء العالم من جديد في الكتابة، لكن الكتابة ليست فقط فعل تدوين قائم بذاته، بل تحتاج إلى وسيلة تواصل ليست بريئة تماما، بل خزان المعرفة، وقد أطلق عليها هايدجر "إقامة الكائن"، وأقصد اللغة، وهما معا وجهان لعملة واحدة. تقول الشاعرة:

"كل شيء يمكن تحريفه

أيها الخيال، أنتَ أكثر وفاءً

أنتَ من يؤَمِنُ بعشبة الخلود

كما يمكنه أن يكتبَ قصيدة" (5-6)

كلما أزمت بالعالم أزمة وبالإنسان الفرد في عزلته الداخلية، يبحث عن ضحية بينما تبحث الضحية عن ملاذها "الكتابة" و"الخيال"، عبرهما تحقق الانتصار، بعيدا عن العقاب البدني، الذي تبني القبيلة حوله أساطيرها التبريرية، أساطير تبرر عجز العقل وقلة الحيلة لديها، وفي الآن ذاته، تبرر تعطشها "القبيلة" إلى الدم، إلى التخلص من العناصر المقلقة لوجودها واستمرارها في التسلط، ليست أندروميدا الضحية الأولى ولا الأخيرة على مدى التاريخ والصراع من أجل السلطة غير المتكافئ، بروميتيوس (Prométhée) ذاته، وقع ضحية غضب زيوس (Zeus)، الذي رأى أن سرقة المعرفة من حوزة الآلهة، أي سلطة متحكمة، في كل مجال، لأن إخفاء الأوراق والأسرار وتحريف الخطاب من الأدوات الأساسية للتحكم في الوعي وتوجيه العقول واستباق تمردها وتميزها ومنافستها وإقلاقها راحة "القبيلة" فيتولد بطريقة لا واعية في نفسية المتسلط "مقاومة" ضدية، بل فطرية تراكمت في نفسه منذ مراحل عميقة في التاريخ.

بالإضافة إلى "الكتابة" و"الخيال" نجد الذات الشاعرة تحتمي بـ"اللغة"، الوجه الآخر للكتابة والقناة الأساسية التي تختزل الوجود العام وكينونة الكائن في مواجهة المجتمع من خلال الثوابت الفكرية المتحكمة فيه لا واعيا الجماعات، القائمة على الخوف من الفكر النقيض ومن الأفكار الحرة أو المتحررة من التبعية والخارجة عن التنميط والتماثل المستنسخ، وهذا المعتقد تصور راسخ ونمطي، يتحكم في منطق "القبيلة" المطمئنة جماعتها للطبقية والترتيب المتوارث، لأنه يكرس نظاما وبالتالي سلوكا رتيبا. والأهم من كل ذلك أن أندروميدا لم تكتشف خيانة والديها (Céphée & Cassiopée) والقبيلة لها إلا وهي مغلولة على الصخرة، حيث تمزقت غشاوة عينيها على الوقت (Cronos)، أي على ماضيها المطمئن، تقول الشاعرة:

" الفسحات البيضاء

تنبثقُ من تشوش الظلمات

الفراغ الأبيض

ما تبحث عنه

حين تتمزق بشرة الوقت" (9)،

وفي المعنى ذاته تأتي العبارة الآتية:

" أحداقٌ مفتوحةٌ

على بئر الفراغ" (14)

لم تنتبه أندروميدا إلى الخوف العدائي للذات في جماعتها إلا وهي مصلوبةٌ على الصخرة العتيدة، ضحية، وفداءً لسلامة الجماعة، إنها لحظة انتهازية، ولحظة خيانة عظمى، تحيك الجماعة خيوطها من خلالها مبررات واهية، تهدئة سورة غضب الوحش البحري، التي تتضمن الرعب القائم تاريخيا في نفس الجماعة، وذنب أندروميدا أنها جميلة وصبية وفتية، تلك الصفات المميزة تتحول إلى عنصر تشويش عند الجماعة، عنصر يبعث على القلق، لأنه يخلخل توازن الجماعة ووعها، وهذه الظاهرة العدائية والعنيفة تتجلى في كثير من الحكايات العالمية الشائعة، مثل بياض الثلج، على سبيل المثال، لكن الأهم في ديوان رجاء الطالبي أن المأساة الواقعية، وتراجيديا الوجود العام، تقاوم بالأمل، ببطولة وشجاعة "بيرسي" وبسلاح الوحوش نفسه دم ونظرة "ميدوزا" (Méduse)، والصراع يجري في ساحة اللغة وميدانها الكتابة والخيال. في هذه الساحة يتم تفكيك مركبات الواقع وتشريح اللاوعي الثاوي في النفس والمتجلي في السلوك الجمعي والعنف الفردي.

تستعمل الشاعر لهذا الاشتغال الفكري واللغوي والإبداعي معجما خاصا بها، يميزها ويرسم حدود متخيلها الشعري الذي يذهب باتجاه الحدود القصوى للكائن وللغة، من قبيل فيافي الصمت، وأقاصي الذات، وهول الفراغ، وامتداد الآفاق السحيقة،  إنه معجم يجسم طبيعة العلاقة بين الشاعر والواقع اليومي، وهي صرخة وسمت إبداع شعراء عالميين وجدوا أنفسهم في المراحل الفاصلة، مراحل الصراع المرير لولادة مرحلة تاريخية واجتماعية وفكرية وسياسية من متلاشيات مرحلة في طور الزوال والأفول، مرحلة تقاوم من أجل البقاء والاستمرار أطول ما يمكنها ذلك. تعنون الشاعر قصيدتها كالآتي "أسقط نحو ما يأتي"، جملة خارج الجاذبية، جملة اختلافية، تخلق المستحيل، لا تسقط نحو الهاوية في الأسفل، بل تسقط نحو المستقبل، نحو الممكن، الذي ستصنعه الذات لنفسها، المستقبل الذي لا ينبغي الوقوف في اللا مكان، وانتظار قدومه، بل المستقبل الذي يبنى ويتحقق بالفعل والقوة، فعل الكتابة وقوة الخيال، ومداد الشك والحركة الدائمة نحو ما تطمح الذات إلى تحقيقه. ثم هناك صوت الـ"أنا" الذي يقف وحيدا مع ذاته في مواجهة الممكن من المستحيل. حيث يلتقي الشعر بالفلسفة، ويشقان الطريق كرفيقين يحفزهما اللا وصول أكثر من طمأنينة التغيير أو الاستكانة للسهل البسيط المتماثل:

"كحجارةٍ ثقيلةٍ

لم توجدْ أسقطُ

نحو ما يأتي إليها ثقيلا

يتموَّجُ كدوائر صماء

تجتاحها

صفحة الليل المائيةُ

تلمعُ في يدٍ من نار" (13)

تقول الشاعرة:

"ما نظرتْ عينُ الشاعرِ، ولكنَّ قلبهُ حيثُ توجه النظر، يحيي ما تجمد" (22)

إذا كانت عين ميدوزا خلاص أندروميدا ضد سطوة وحش البحر، فإن عين الشاعرة تحيي الموات والخراب وما تحجر من العالم وفي الفكر وفي النفوس المضطهدة، وهي نفوس تستكين لواقع الحال ويرعبها المستقبل والتغيير والمغامرة والمخاطرة. فعين الشاعر ليست سوى استجابة لا إرادية لما يوحي به القلب، مصدر القصيدة والحياة وجوهر الإبداع والفكر والابتكار.

إنه الأمل الذي جاء من المجهول لإنقاذ أندروميدا من براثن الوحش البحري، ذلك الهواء/ الأكسجين الذي تستنشقه الأرض؛

" أشجارٌ قصيرة مستسلمة لهدأة المساء

تغني بخفوت ضد الموت، تقول الهواء،

السماء الهادئَةَ القريبة، تهمسُ أن الهواء

حيٌّ، أن الأرض تستمر في تنشق الهواء" (27)

هذا الهواء الذي تبعثه القصيدة/الكتابة في زحمة اليأس، وتحت السماء الكئيبة الخفيضة، إنها قصائد تجمع بين المتناقضين؛ الموت والحياة، واليأس والأمل، والقبح والجمال، والواقع والخيال. كل ذلك ممكن في ساحة الكتابة، وميدان الخيال بواسطة اللغة الشعرية المجازية، تغني القصيدة بخفوت كما تتضرع أندروميدا في خفوت على صخرة "المذبح"، هل جاء بيرسي من المجهول؟ هل جاء استجابة لتضرع المظلوم المكلوم الكظيم؟

تحفل اللغة الشعرية بكل الاحتمالات الممكنة والخلافية التي لا تخضع لرتابة المنطق وقانون العليَّة والسببية، تحدث الأشياء أيضا لأن الشاعر يؤيد ذلك، تحدث في مكان ما، في ساحة الكتابة وميدان الخيال الخلاق. هنا قوة القصيدة وخصوبة اللغة الشعرية.

Publicité
Commentaires
Publicité
محمد معتصم
Archives
Publicité