Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
محمد معتصم
Derniers commentaires
Newsletter
Catégories
محمد معتصم
  • تتضمن المدونة عددا من المقالات والدراسات، والأخبار الثقافية والآراء حول المقروء والمنشور والمتداول في الساحة الثقافية. مع بعض الصور
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
1 mars 2013

الخطاب الروائي والإنسان المعاصر

محمد معتصم

 

تعدُّ الرواية خطابا سرديا ووصفيا ينهضُ على أساسِ أحداث مبنية بناءاتٍ متنوعةً حَسَبَ قَصْدِيَّةِ الكَاتِبِ الموضوعي الخارجي مشاركا كانَ أو غير مشارك في تطور السرد ونماء المحكيات. ويعدُّ تعدد البناءات الخارجية للرواية المِحَكَّ والفَيْصَلَ بين تجربة روائية آنية وتجربة أخرى سابقة عليها أو مجايلة لها، فصيغ الخطاب في الرواية العربية اليوم متنوعة بتنوع وعي الكاتب الموضوعي وثقافته ورؤيته للعمل الروائي، فهناك الخطابات التقليدية المتمسكة بالحبكة التقليدية المُتَحَكِّمِ فيها الخضوع لِمفهوم الزمن الفيزيقي الخارجي الذي يخضع بدوره لمنطق العلة والمعلول، والتواتر، واعتبار الكتابة صورة حقيقية "منعكسة" عن الواقع الخارجي في عمومه أو خصوصياته الجزئية، كالتجارب التخييلية الفردية، والسير الذاتية والغيرية التعليمية والوعظية، والخطاب السردي لهذه الأنماط من الكتابة لا يحيد عن كونه خطابا توجيهيا مَالِكًا للمعرفة واليقين، وهو ما ينفي عن الكتابة أهم خصوصياتها المميزة؛ وهيَ أن الكتابة ليست سوى متخيلٍ فردي أو جماعي [مشترك] لظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية خاصة أو عامة، محلية أو عالمية...

 

في رواية "حلم حقيقي" لمحمود الريماوي تتجلى هذه المسألة، فالرواية ليست بديلا عن الواقع الذي يمور بالأحداث وليست عالما موازيا يسير إزاءه، إنما هي "كِتَابَةٌ متخيلةٌ" تحدث في ذهن الكاتب ويعيها وعيا خاصا به يشكل معنى العميق لمفهوم القصدية الروائية، أي أن الرواية، وكل إبداع حديث، لا يقف عند حدود نقل الواقع وتجاربه وتصويرها بصورة آلية، إنها هي رؤية خاصة موجَّهة من قبل وعي ذاتي حاد لظاهرة بعينها، لأن الكتابةَ الروائيَّةَ اليومَ ليست مَلْءَ فَرَاغَاتِ الْفَجَوَاتِ التي يُحْدِثُهَا الواقع في ذهن الإنسان المعاصر المأخوذ من ناصيته والمقذوف في حمأة الوهم بالحياة والوهم بالكينونة، فهي رجة الوعي الراكد والمستكين.

 

رواية محمود الريماوي تبحث في طبيعة الإنسان المعاصر، الإنسان في تنوعه وتعدده؛ الإنسان المستسلم لمجرى الحياة تحمله حيث تشاء كما تحمل المياه الجارية الفضلات إلى الضفاف البعيدة، هذا الإنسان الذي استسلم نهائيا وتخلى عن كل أشكال المقاومة الجماعية والذاتية، إنه الإنسان المعاصر الذي تكالبت عليه الضربات وأصابته في جوهره وباتت كينونته سؤالا مغيبا عن الوعي، أصبح اليوم مجرد "رقم" سالب في معادل وجود مستحيلة التحقق.

 

تتجلى صورة هذا النمط من الإنسان الذي بلغ مستوى ما تحت الصفر في الإنسانية لدى أولئك البشر الذين  تكشَّفَ عنهم "تحقيق" الصحافي "مينو"، تلك الكائنات الفائضة عن الحاجة، وتلك الكائنات التي تبيع ذاتها بالتقسيط مقابل حفنة من المال، وتتاجر في حياتها وتختزل تعاستها في أيام معدودات، وتقبل أن تكون قطع غيار لحيوات أخرى قادرة على الدفع وبسخاء. إنها كائنات فاقدة لأدنى ذرة من الإنسانية أو الاحترام لذاتها وبالتالي فاقدة لمعنى المسؤولية ومبدإ المقاومة، إنها كائنات ممسوحة الهوية بلا ملامح محددة فضلات زائدة في جملة الحياة والوجود، وسنطلق عليها الآن هنا "الكائن الأدنى".

 

 هل هو كائنٌ هشٌ وضعيفٌ إلى هذا الحد؟ هل هوَ كائنٌ مجبرٌ، بقوى عليا أو دنيا، على فعل تبديد كينونتهِ الحق والخاصة جملة أو بالتقسيط؟ هذا ما يروج له النمط الثاني من الكائنات، وسنطلق عليه هنا أيضا "الكائن الأوسط/الوسيط"، وهو الإنسان الانتهازي الذي يبني لنفسه عالما منغلقا على "يَقِينٍ وَاهِمٍ وَوَاهٍ" يحيا فيه إلى حين ثم ينهارُ السقف عليه ليجد نفسه وحيدا ومنبوذا كحيوان ينفق في الخلاء والخراب.

 

يقدم الكاتب محمود الريماوي شخصية "رحيم" نموذجا للكائن الانتهازي في سياق الحياة المعاصرة التي شهدت انحدارا حادا في القيم والمبادئ العليا والكبرى، وانكماشا في دور الإنسان في بناء صروح الاقتصاديات الجديدة، وقد أفرد له الكاتب فضاءً أوسعَ، حتى أن السياق السردي لشخصية "رحيم" شكل وحده في مرحلة من تطور السرد محكيا تاما، وبدا أنه "المحكي المطوي" طي الثوب الذي ضم تحته المحكي الإطار الأعم والأكبر لشخصية "مينو" المحورية.

 

في بداية محكي رحيم يتساءل القارئ ومعه الناقد عن سبب "تبئير" شخصية رحيم، وعن سبب تقديم السارد لهذه الشخصية تقديما شاملا، من وضعية اجتماعية ووظيفة في الحياة وسلوك وطبع ورغبات نفسية، والجواب يتجلى في نهاية دورة السرد وانغلاق الخطاب الروائي على عالمه المتخيل.

 

يرسم السارد شخصية رحيم فيطبعها أولا بالغموض والطموح، ذلك الغموض الذي سيتكشف على كائن من درجة أوسط، درجة متدنية لكنها أعلى قليلا من الكائن الأدنى الذي فقد كل قدرة أو إرادة ذاتية ونفسية وشخصية على مقاومة الاندحار، شخصية الكائن الأوسط "رحيم" تدفع القارئ إلى السؤال: هل هي شخصية انتهازية أو شخصية ماكرة أم شخصية استوعبت حقيقة المرحلة وأدركت لبها وطبيعة التعامل معها والاندماج في مساراتها ودروبها المتشعبة، أم هي شخصية وصولية "براغماتية" تتسلق كل الدرجات الممكنة والمتاحة من أجل الوصول إلى هدف منشود، هل هي شخصية على حق أم أنها شخصية مدعية؟؟؟

 

الفرق بين الكائن الأدنى والكائن الأوسط ليس في الجوهر الإنساني لأنهما معا يفتقدان إلى مبدإ المقاومة الذاتية والجماعية في آن؛ الأول يأكل من حياته وجسده في غياب الوعي بفلسفة الحق والواجب والمسؤولية، والثاني يأكل من مبادئه ومواقفه وقيمه، إنه يستبدلها مقابل الوصول إلى وضعية اجتماعية معينة، الوصول ولو على حساب "الإخصاء القيمي". إنهما معا كائنات ممحية وممسوحة الوجود، الأولى فاقدة للقدرة على الفعل والثانية فاقدة لخصوصية النوع، أي أنها كائنات فاقدة للذات الحق والوجود القيمي.

 

تنتهي الكائنات الأدنى إلى الموت البطيء أو الفوري، وإلى الاندفان في أجسادٍ غريبةٍ قادرة على الدفع وشراء مزيد من الحياة والمتعة والأجساد، أي "كائنات أرقى"، وتنتهي الكائنات الوسطى إلى الضياع والتيه لأنها مفرغة من الداخل كالفقاعات؛ وهما معا يفتقدان إلى مبدإ المقاومة، لكنهما صورة واحدة للإنسان المعاصر المهزوم من الخارج (المجتمع) ومن الداخل (القيم)، فـ"الكائن الحقيقي" الذي يخذله الواقع الخارجي والحياة لا ينهار عادة إذا كان عالمه الباطني ووعيه متماسكيْنِ، لكن شخصية رحيم في رواية محمود الريماوي انتهى بها الأمر إلى الطلاق وضياع الاستقرار والحياة الأسرية وإلى الفصل عن العمل لأن التحقيقات كشفت عن تورطه في عمليات مشبوهة تم فيها استغلال الفقراء والمعوزين والجاهلين من مواطنيه من الكائنات الأدنى [المنبوذين والمهمشين في المجتمع والحياة].

 

هناك أربعة أصناف من الإنسان المعاصر في الحياة اليوم وفي العالم المتخيل لمحمود الريماوي وهي على التوالي:

-         الكائن الأدنى: المنبوذون والمهمشون في الحياة والمجتمع. الكائنات الأشباح.

-         الكائن الأوسط: الانتهازيون والمتسلقون والوصولون. الكائنات المسوخ.

-         الكائن الأرقى: المرفهون والمترفون. الكائنات النسخ.

-         الكائن الحقُّ: أصحاب المبادئ والقيم العليا. الكائنات المقاومة.

 

تمثل شخصية الصحفي "مينو" نموذج "الكائن الحق" في رواية الكاتب محمود الريماوي، وقد بنى السارد محكي الشخصية بناء متدرجا متمهلا كمحكي إطار ممتد على أبعاد الفضاء الروائي المتخيل، عكس محكي رحيم الذي قدمه دفعة واحدة في الفصول المتوالية (7-8-9-10)، فجاء كتضمين، أو كمحكي مطوي، ولم يعد إليه إلا بعدما تمت التحقيقات وتبين أنه متورط في بيع أبناء بلده من المنبوذين والمهمشين الفقراء جراء طموحه الشخصي وتسلقه ووصوليته، يوضح قائلا:" ... قالوا لي إن الأبحاث الطبية قد تحمل قدرا من المجازفة بحياة مريض هنا ومريضة هناك. لكن نتائجها في ما بعد تخدم ملايين البشر. أنا نادم، ولكن هذا ما حدث. قالوا إنه يجب التكتم على عنصر المجازفة. وطلبوا تعاوني وقد فعلت. كنت أخلط في صور الأشعة التي أقدمها لأطبائنا المحليين، أمنحهم صورا ذات نتائج أفضل من الصور الحقيقية. صور لمرضى آخرين." ص (125)، يضيف مبينا العلة:" سألتني مقابل ماذا؟ مقابل المغامرة. كنت صديقا لأحدهم ولإحداهن. كانت جميلة ومثيرة عالجت كبتي الشرقي..." ص (126).

 

عبر الصبر والتأني والتقصي استطاع "مينو" الحصول على ما يريده من المودن خالد مشتاق وأخته الطبيبة بلقيس التي اعترفت له بالخروقات الطبية وتلاعب بعض الأطباء والممرضين بالنتائج وإخفاء الحقيقة المرة، فكتب تحقيقا مفصلا مقنعا مثيرا للظاهرة حصل بموجبها على ترقية في عمله واحترام أكبر من رئيسه وزميلاته وزملائه في العمل.

 

مرة أخرى، وعبر الخطاب الروائي عند محمود الريماوي، يطرح السؤال حول حقيقة الرواية اليوم: هل هي القصة؟ وهل هي بالضرورة الوصف الدقيق للواقع في كليته أو في جزئياته المتفرقة؟ وهل تحتاج الرواية إلى لغة خاصة وصافية متعالية ومثقلة بالأساليب وبالألفاظ وبالتعبيرات المسكوكة الموروثة؟ وهل لغة السرد في الرواية اليوم هي ذاتها التي كتبت بها الروايات الأولى لدى المقتبسين من مدرسة البيان...؟

 

الرواية من خلال الخطاب الروائي لدى محمود الريماوي في روايتيه "من يؤنس السيدة؟" و"حلم حقيقي" سهل ممتنع، قريب وعميق، المحكيات فيه محدودة بلا إفراط، وشخصياته مليئة بالحيوية وكل واحدة منها تمثل عالما خاصا تختزل مظاهر الوجود، ومرتبطة بالحياة اليومية العادية، في الخطاب الروائي عند محمود الريماوي تتراجع القصة كحبكة تتداخل فيها العلاقات بين الشخصيات الروائية وتتراكم وتَتَتَابَعُ الأحداثُ، لِصَالِحِ الظَّاهِرَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ ولصالح الفِكْرَةِ.

 

كتب محمود الريماوي عن مفهوم "البطء" و"الفراغ" و"العزلة" في "من يؤنس السيدة؟"، وكتب عن "الإنسان" في أبعاده التي أنتجتها المرحلة المعاصرة في "حلم حقيقي"؛ الإنسان الأدنى الذي فَقَدَ إرادته وتخلى عن كينونته وأصبح وجوده ثقلا ينبغي التخلص منه، والإنسان الأوسط الذي باع روحه ومبادئه وقيمه ليس للشيطان كما في "فاوست" غوته، لكن لركوب صهوة المرحلة واحتلال الواجهة والانمحاء في غبار وضجيج السرعة والالتباس والسهولة والسطحية.

 

لقد استطاع محمود الريماوي التقاط أهم تأثيرات المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي خاصة والعالم عامة على الإنسان المعاصر، وقد انتقل من درجة التشيُّؤِ في نهاية القرن المنصرم إلى درجة الخواء، حيث صار أجوف من الداخل تعبره الريح، بلا قرار أو روح مقاوِمَةٍ، والأفظع أنه صار كائنا غريبا الأطوار يقتات من ذاته، يأكل من بعضه، يقترض من مستقبله ما يسند حاضره، يبيع أحلامه وطموحه من أجل متعة لحظية. إنه الكائن الخرافي العجيب الذي ولدته المرحلة يأكل من ذاته، يأكل ذاته، ما اسمه هذا الكائن الخرافي؟

 

إنه الإنسان الأدنى، الإنسان المهزوم المنبوذ والفائض عن الوجود المتخلي عن كرامته وحقوقه، وهو كذلك الكائن الانتهازي الذي يقتات على مبادئه وينسلخ عن مواقفه ويمتهن الادعاء ولا يترك وسيلة إلا واستغلها لإدراك مآربه الخاصة تماما كما استغل رحيم الحزب للوصول إلى والد زينب التاجر، واستغل بساطة وطيبة مينو لإبعاده عن الحقيقة...

 

إنه الخطاب الروائي الحديث الذي يقترحه علينا محمود الريماوي، خطاب يذهب نحو الجهة الأخرى للواقع، حيث تختفي الحقيقة المرة والأفكار الشيطانية والممارسات البغيضة، تقول الطبيبة بلقيس شقيقة المدون خالد مشتاق:" أتحدث عن أفكار شيطانية، وممارسات بغيضة، تتم في غرف قد تكون جيدة الأثاث حسنة الإضاءة والتهوية، يشغلها أناس مهذبون مهندمون شديدو الاعتداد بأنفسهم." ص (102-103).

 

 

سلا: الجمعة؛ 15/02/2013

        

 

الريماوي، محمود: حلم حقيقي، رواية. كتاب دبي الثقافية. 51. يوليو 2011م                        

 

 

Publicité
Commentaires
Publicité
محمد معتصم
Archives
Publicité